وقال تعالى : ) قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى ( ([b][1]) . قال ابنُ القَيِّمِ ~ عن هَذِهِ الآيَةِ : ( الآيَةُ شَامِلَةٌ لِهِدَايَةِ الْحَيَوَانِ كُلِّهِ نَاطِقِهِ وَبَهِيمِهِ ، طَيْرِهِ وَدَوَابِّهِ ، فَصِيحِهِ وَأَعْجَمِهِ ) انتهى ([2]) .يُريدُ ابن القيِّمِ ~ الْهِدَايَةَ العامَّة ، وهَذه الآية مِثْل قوله تعالى : ) وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى ( ([3]) . وقد ذَكَر ~ في كِتَابِهِ النَّفِيسِ « شِفَاءِ العَلِيلِ » مِنْ عَجَائب مَا ألْهَمَ اللَّهُ الْحَيَوَانَ وَالطَّيرَ وَالنَّحْلَ والنَّمْلَ لِمَعَايِشِهَا مَا يُبَيِّنُ قُدْرَةُ القَدِيرِ وَعِلْمِهِ وَلُطْفِهِ وَحِكْمَتِهِ . وقد تقدَّم مَا ذَكَرَ الله U مِنْ قَولِ نَبِيِّهِ سُلَيْمَانَ # أنه قَالَ : ) عُلِّمْنَا مَنْطِقَ الطَّيْرِ ( ([4]) ، فَهُوَ مَنْطِقٌ مُعَبِّرٌ لَكِنْ لاَ نَفْقَههُ ! . قالَ ابنُ القيم ~ : ( وَمَنْ عَلَِّمَ العُصْفُورَةَ إِذَا سَقَطَ فَرْخُهَا أنْ تَسْتَغِيثَ فَلاَ يَبْقَى عُصْفُورٌ بِجِوَارِهَا حَتَّى يَجِيءُ فَيَطِيرُونَ حَوْلَ الفَرْخِ وَيُحَرِّكُونَهُ بِأفْعَالِهِمْ ويُحْدِثوُنَ لَهُ قُوَّةً وَهِمَّةً وَحَرَكَةً حَتَّى يَطِيرُ ) ([5]) .* * * * * * * * *
وقد تقدم بيان أنَّ الطُّيورَ أمَّة من الأمَمِ كما في قوله تعالى : ) وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ ( ([6]) ، فأنَتَ يا مَنْ تَحْبِسُ طائراً في قفَصٍ تَتَمَتَّع بزعمِكَ بِصَوته وَشَكله الْحَسَن ، ورُبَّمَا أنه يَشكوكَ إلى رَبِّهِ وخالقِهِ الذي أعْطَاهُ جَناحَيْن يَطير بِهِمَا فِي فَضَاءٍ وأنتَ عَطَّلْتَ جَناحَيهِ بِحَبْسِكَ إِياه واستمتاعك بصَوْتِهِ الْحَسَن وشَكْلَه الْجَمِيل ! ، فَهُوَ مِثْل الْمُعَوَّق الَّذي لاَ تَحْمِله أقْدَامُهُ ، بَلْ يَزِيدُ عليه بِحَبْسِهِ ! ؛ وَتَأمَّلْ إنْ كُنْتَ تَخَافُ الْحِسَابَ يَوْم القِيَامَة قَوله تعالى : ) ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ ( . وقَدْ جَاءَ عن أبِي الدَّردَاء t أنه قال : ( تَجِيءُ العَصَافِيِرُ يَوْمَ القِيَامَةِ تَتَعَلَّقُ بِالْعَبْدِ الَّذِي كَانَ يَحْبِسُهَا فِي القَفَصِ عَنْ طَلَبِ أرْزَاقِهَا وَتَقُولُ : " يَا رَبُّ هَذَا عَذَّبَنِي فِي الدُّنْيَا " ! ) انتهى ([7]) . وَلذَلِكَ مَنَعَ ابنُ عَقِيلٍ ~ حَبْسَ الطَّيْرِ فِي القَفَصِ وَجَعَلَهُ سَفَهًا وَتَعْذِيباً حيثُ قال حِينَمَا سُئِلَ عَنْ حَبْسِها لِطِيبِ نَغْمَتِهَا : ( سَفَهٌ وَبَطَرٌ ، يَكْفِينَا أَنْ نَقْدُمَ عَلَى ذَبْحِهَا لِلأَكْلِ فَحَسْبُ ، لِأَنَّ الْهَوَاتِفَ مِنْ الْحَمَامِ رُبَّمَا هَتَفَتْ نِيَاحَـةً عَلَى الطَّيَرَانِ وَذِكْرِ فِرَاخِهَا ! ، أَفَيَحْسُنُ بِعَاقِلٍ أَنْ يُعَذِّبَ حَيًّا لِيَتَرَنَّمَ فَيَلْتَذَّ بِنِيَاحَتِهِ ! ؛ فَقَدْ مَنَعَ مِنْ هَذَا أَصْحَابُنَا وَسَمَّوْهُ سَفَهًا ) انتهى ([8]) .وقال ~ - أيضاً - : ( نَحْنُ نَكْرَهُ حَبْسَهُ لِلتَّرْبِيَةِ لِمَا فِيهِ مِنْ السَّفَهِ , لِأَنَّهُ يَطْرَبُ بِصَوْتِ حَيَوَانٍ صَوْتُهُ حُنَيْنٌ إلَى الطَّيَرَانِ وَتَأَسُّفٌ عَلَى التَّخَلِّي فِي الْفَضَاءِ ) انتهى ([9]) .وقال ابنُ مُفْلِحٍ ~ : ( فَأَمَّا حَبْسُ الْمُتَرَنِّمَاتِ مِنْ الْأَطْيَارِ كَالْقَمَارِيِّ وَالْبَلاَبِلِ لِتَرَنُّمِهَا فِي الأَقْفَاصِ فَقَدْ كَرِهَهُ أَصْحَابُنَا لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ الْحَاجَاتِ إلَيْهِ ، لَكِنَّهُ مِنْ الْبَطَرِ وَالأَشَرِ وَرَقِيقِ الْعَيْشِ ، وَحَبْسُهَا تَعْذِيبٌ ) انتهى ([10]) .وفي كَلاَم ابنِ عَقِيل وابن مُفلحٌ وغيرهم مِمَّا ذكرناه هنا ردٌّ على مَن أجازَ حَبْسَ الطُّيوُرِ في الأقفاص إذا كان حَابِسُها يقوم بتوفيرِ أكْلِهَا وَشُرْبِهَا ؛ وقد تبيَّن مِرَاراً أنَّ العِلَّةُ في عدم جواز حبْسِ الطيور في الأقْفَاص ليسَتْ فَقَطْ بِمَنْعها الْمَأكَل والْمَشْرَب وَإِنَّمَا الْحَبْسُ لِأنه ظُلْمٌ وعَذَابٌ .* * * * * * * * *
وَعَلَيهِ فَتَأمَّل رَحمةَ النبيِّ r بِمِثْل هَذِهِ الطيوُرِ ، فَقَدْ جَاءَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ عَنْ عَبْدِ اللهِ بنِ مَسْعُودٍ t أنَّهُ قَالَ : كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ r فِي سَفَرٍ فَانْطَلَقَ لِحَاجَتِهِ ، فَرَأَيْنَا " حُمَّرَةً " ([11]) مَعَهَا فَرْخَانِ ، فَأَخَذْنَا فَرْخَيْهَا ، فَجَاءَتْ الْحُمَّرَةُ فَجَعَلَتْ تَفْرِشُ ([12]) ، فَجَاءَ النَّبِيُّ r فَقَالَ : ( مَنْ فَجَعَ هَذِهِ بِوَلَدِهَا ؟! ، رُدُّوا وَلَدَهَا إِلَيْهَا ) ([13]) .تأمَّلْ قَولَه r : ( فَجَعَ ) تَعْلَمْ أنَّ هَذِهِ الطُّيور تَتَألَّمَ حَتى وَصَفَ r هَذِهِ الْحُمَّرَة بِأنَّهَا ( مَفْجُوعَةٌ ) ! ، وإذَا كَانَ الأمْرُ كَذَلِكَ فَأَلاَ تُفْجَعُ بِحَبْسِهَا ؟! ، وَمَا مَصْلَحَةُ فَاجِعِهَا ؟! ، إِنهُ التَّسَلِّي بِحُزْنِهَا وَنُوَاحِهَا ! ؛ فَلَعَلَّ مَن كَانَ غَافِلاً أنْ يَتَنَبَّهْ .
وَقَالَ الْحَافِظُ الْمُحدِّثُ أبو نُعَيم ~ : حدَّثنا سُلَيمَان بنُ أحْمَدِ الطَّبَرَانِي - وَهُوَ صَاحِبُ الْمَعَاجِمِ الْحَدِيثِيَّةِ الثَّلاَثَـةِ الْمَعْرُوفَـةِ - ، حَدَّثَنَا عَلِيُّ بنُ عبدِ العَزِيـزِ ، حَدثنا عَـارِم أبو النُّعْمَـان قالَ : أتَبْتُ « أبَا مَنْصُور » أعُوُدُه فَقَال لِي : بَاتَ سُفْيَانُ الثَّـوْرِي ~ في هذا البيتِ وَكانَ هَهُنَا بُلْبلٌ لِابْنِي ؛ فَقَالَ : ( مَا بَالُ هَذَا الطَّيْرِ مَحْبُوسٌ ! ، لَوْ خُلِّيَ عَنْـهُ ؟! ) .
فقلتُ : هو لِابْنِي وَهُوَ يَهَبُهُ لَكَ .
قَالَ : فَقَالَ : ( لاَ وَلَكِنِّي أُعْطِِيهِ دِينَارًا ) .
قال : فأخَذَه فَخَلَّى عنه فَكَانَ يَذهَبُ فَيَرْعَى فَيَجِيءُ بالعَشِىِّ فيكُونُ فِي نَاحِيَةِ البَيْتِ .
فَلَمَّا مَاتَ سُفيانُ تَبِعَ جِنَازَتَهُ فَكَانَ يَضْطَرِب عَلى قَبْرِهِ ، ثُمَّ اخْتَلَفَ بعدَ ذلك لَيَالِي إِلَى قَبْرِهِ فَكَانَ رُبَّمَا بَاتَ عَليهِ وَرُبَّمَا رَجَعَ إلَى البيتِ ، ثُمَّ وَجَدُوهُ مَيِّتاً عند قَبْرِهِ فَدُفِنَ مَعَهُ فِي القبرِ أوْ إلَى جَنْبِهِ (
[14]) .
فتأمل قول سفيان ~ : ( مَا بَالُ هَذَا الطَّيْرِ مَحْبُوسٌ ! ، لَوْ خُلِّيَ عَنْـهُ ؟! ) ، فَلَمْ يذكُر الرِّزْقَ وإنَّما ذَكَرَ الْحَبْسَ فَقَطْ لأنه عَذَابٌ ، ثُم إنه اشْتَرَاه وَأطْلَقَهُ ! ، ثُمَّ حَصَلَ هَذَا الأمرُ العَجِيبِ الذي فَعَلَهُ هَذَا الطَّائِرُ ! .وَمَا أحسَن كَلاَمَ السَّفاريني ~ فِي ذَلِكَ حَيثُ قَالَ : ( لاَ يَخْفَى عَلَى عَاقِلٍ أَنَّ كَثْرَةَ تَرَنُّمِ الطُّيوُرِ عَلَى تَذَكُّرِهَا إلْفَهَا مِنْ الأَمَاكِنِ الشَّاسِعَـةِ ، وَالأَغْذِيَةِ النَّاصِعَـةِ ، وَالْقَرِينِ الْمُصَافِي ، وَالْمَاءِ الْعَذْبِ الصَّـافِي ، وَالإِطْلَاقِ الرَّحِيبِ ، وَمُخَالَطَةِ الْحَبِيبِ ، مَعَ الْوَكْرِ الْمُشْتَهَى لَدَيْهَـا ، وَالأَغْصَانِ وَالْعُكُوفِ عَلَيْهَا .وَيُعْجِبُنِي مِنْ ذَلِكَ أَنَّ أَعْرَابِيًّا حُبِسَ فِي قَلْعَةِ " جِلِّقِ " الْمَحْرُوسَةِ فَضَاقَ بِهِ الْخِنَاقُ ، وَبَلَغَتْ مِنْهُ الرُّوحُ التَّرَاقِ ، فَدَخَلَتُ عَلَيْـهِ عِنْدَ الْمَحَابِيسِ - وَكَانَ فِي الْحَبْسِ اثْنَـانِ مِنْ « الدَّيْرَةِ » - فَقَالَ لِي الأَعْرَابِيُّ :" يَا سَيِّدِي : أَنَا أَقُولُ قَاتَلَ اللَّهُ حَابِسَ الطَّيْرِ فِي الأَقْفَاصِ ! ، فَإِنَّهُ لِشَجْوِهِ وَغُرْمِهِ يَتَرَنَّمُ وَالْحَابِسُ لَهُ بِشَجْوِهِ وَعَذَابِـهِ وَبِلْبَالِهِ يَتَنَعَّمُ ، وَلَوْ عَرَفَ مَا فِي جَوْفِهِ مِنْ اللَّهِيبِ النَّاشِئِ عَنْ فِرَاقِ الْإِلْفِ الْحَبِيبِ وَالْمَكَانِ الرَّحِيبِ لَكَانَ إلَى اُلْبُكَا وَالْوَصَبِ أَقْرَبَ مِنْهُ إلَى التَّنَعُّمِ وَالطَّرَبِ ، وَلَكِنْ هَانَ عَلَى الْخَلِيِّ مَا يَلْقَى الْمَلِيُّ " .فَقُلْت لَهُ : وَمِنْ أَيْنَ عَرَفْت أَنْتَ هَذَا ؟! ؛ فَقَالَ : " قِسْته عَلَى نَفْسِي ، وَشَبَّهْت حَبْسَهُ بِحَبْسِي ! ، بِجَامِعِ أَنَّ كُلاًّ مِنَّا نَشَأَ فِي الْفَلاَةِ الْوَاسِعَةِ ، وَالأَقْطَارِ الشَّاسِعَةِ " .فَانْظُرْ حَالَ هَذَا الأَعْرَابِيِّ مَعَ جَفَائِهِ وَغَبَاوَتِهِ ، وَعَدَمِ مُخَالَطَتِهِ لِذَوِي الْعُلُومِ وَقِلَّةِ دِرَايَتِهِ ، كَيْفَ أَدْرَكَ هَذَا الْمُدْرَكَ ، تَجِدْهُ قَدْ أَصَابَ فِي قِيَاسِهِ وَأَدْرَكَ ؛ وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ ) انتهى ([15]) .نَسْألُ الله تعالى بِمَنِّهِ وَكَرَمِهِ أنْ يُعتِقَ رِقَابَنَا وَرِقَابَ وَالِدَيْنَا وَالْمُسْلِمينَ مِنْ النَّارِ ، وأنْ يُعِيذَنا مِنْ خِزْيِ الدُّنيَا وَعَذَابِ الآخِرَةِ ، وأن يُسْكِنَنَا الْجَنَّةَ مَع الأبْرَارِ ويَمُنَّ عَلينا بِرُؤيَةِ وَجْهِهِ الكَرِيمِ ؛ إنه جوادٌ كَرِيِمٌ رَحِيمٌ .وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ العَالَمِينَ ، وَصَلَّى اللَّهُ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ ([1]) سورة طه ، الآية : 50 .([2]) « شِفاء العليل » ، ص ( 106 - 107 ) . ([3]) سورة الأعلى ، آية : 3 .([4]) سورة النمل ، من الآية : 16 .([5]) « شِفاء العليل » ، ص ( 114 ) . ([6]) سورة الأنعام ، آية : 38 .([7]) « حياة الحيوان الكبرى » للدميري ، ( 2 / 213 ) .([8]) أنظر : « بدائع الفوائد » ( 3 / 655 ) ، و « غِذاء الألباب » ( 1 / 349 ) .([9]) أنظر : « الفروع » لابن مفلح ، ( 6 / 208 ) و ( 12 / 464 ) .([10]) أنظر : « الآداب الشرعية الكبرى » ( 4 / 20 ) .([11]) الْحُمَّرة : طائر صغير كالعصفور . أنظر : « لسان العرب » لابن منظور ( 4 / 215 ) .([12]) أيْ : ترفرفت بجناحيها وتقرَّبت من الأرض . أنظر : « عون المعبود » للعظيم آبادي ( 7 / 240 ) .([13]) أخرجه أبو داود في « سننه » برقم ( 2657 ) و ( 5268 ) ؛ وقال النووي في « رياض الصالحين » ص ( 367 ) : ( إسناده صحيح ) .([14]) « حلية الأولياء » ( 7 / 58 ) ؛ وانظر : « سير أعلام النبلاء » للذهبي ( 7 / 266 ) .([15]) « غِذاء الألباب » للإمام السفاريني ، ( 1 / 349 - 350 ) .[/b]