قد يطول الكلام في هاتة النقطة لكن قبل الانتقال إلى باقي النقط الأخر , سوف ندرج هنا نصا لأحد المعمرين الفرنسيين , و سوف نعتبره خلاصة لكل ما سبق أن أوردناه و لينتبه القارئ :
" و إنه لمن واجبنا ومن أجل مصلحتنا معا , عندما نوجه مجهوداتنا لإدخال إصلاحات ثقافية في المجتمع المغربي أن لا نعمل على زعزعة هذا المجتمع و أن لا نمس تقاليده , يجب أن نعطي لجميع الطبقات " خبرة الحياة "الذي يناسبها و التي هي في حاجة إليها , كما يجب أن نوجه تطور كل هذه الطبقات في الإطار الخاص بها .... هنا كما في البلدان الأخرى توجد بروليتاريا يدوية , إن أبناء العمال و الفلاحين و الصيادين هم موضوع اهتمام زائد من طرف الحماية إن لهم مدارسهم الابتدائية ذات الاتجاه المهني الفلاحي الرعوي , الملاحي حسب المناطق .... و لكن ليس لدينا في المغرب بروليتاريا فكرية , فهل هناك أية فائدة في خلق مثل هاته البروليتاريا الفكرية , سواء بالنسبة لمصلحة المجتمع المغربي أو بالنسبة للسيطرة الفرنسية ؟
يقينا , لا , إن عملنا العظيم الذي نقوم به من أجل التجديد الثقافي يجب أن ينحصر فقط ضمن الأطر التقليدية لهذا المجتمع , و سيتجه نحو البرجوازية التجارية القروية , تحو موظفي المخزن , نحو رجال الدين أو رجال العلم , و بكلمة واحدة نحو
النخبة.... إن الخطركل الخطر كامن في صنع طبقة من المثقفين .... لا ركائز لها و لا ماض لها و لا تقاليد , الشيء الذي سيجعل منها مرتعا خصبا لجميع الإغراءات .
و إذن فيجب أن لا نهتم بالكم (أي التعميم) , يجب أن لا نضع في المغرب سنة بعد أخرى و بشكل مطرد و على حساب المجتمع المغربي و مصلحة الإمبراطورية الفرنسية , رجالا ينمي ينمي فيهم التعليم أذواقا و حاجات و أمالا , لن يقدروا هم أيضا على إرخائها بأنفسهم , و لن تقدر الحماية و لا المغرب ولا المستعمرة و لا الإقتصاد المغربي على تحقيقها لهم , فكيف لا يجزم المرء بأن هذه القدرات التي ستبقى دون عمل ستنقلب ضد مصلحتها و ضد مصلحتنا و نحن .... و لهذا فإنه من المستحيل , بعد الذي قلناه , أن يخرج المرء بنتيجة بغير النتيجة التالية :
إن زبناء مدرستنا الثانوية و مدارس أبناء الأعيان , يجب أن يكونوا من هذه النخبة الإجتماعية التي يقبلها الشعب و يحبها و يحترمها و التي تحكمه بكل قوى الدين و العلم و الهيبة و الإدارة و الثروة , يجب أن لا تخلق – بواسطة التعليم – جماعة من الساخطين المستائين اللامنتمين طبقيا , لنبق أسياد المستقبل , لنجمع بين الصفوة الإجتماعية و النخبة الفكرية و ذلك بمنح التربية الفكرية الرفيعة لأطر المجتمع المغربي وحدها , أولئك الذين يستطيعون استيعابها و استعمالها ....".
ينطلق الميثاق من مصادرة أساسية هي كون التعليم غير مندمج في الوسط المجتمعي و غير مرتبطة مع محيطه الإقتصادي مع انعدام أو نقص في مسالكه المؤدية إلى سوق العمل , إن هاته المصادرة ليس لها بالنسبة إلينا سوى معنى واحد هو ذلك الفصل القائم بين " تخطيط " الدولة التبعية و واقع الجماهير الشعبية, و ما انعدام " المسالك " المؤدية إلى سوق الشغل , سوى النتيجة الحتمية لتبعيته للدوائر الإمبريالية و موقعه من التقسيم العالمي لسوق الشغل , لن نتسائل هنا حول طبيعة الإجابات المقدمة من طرف " أصحاب الميثاق " أو حول الجوانب التي تخدمها , فذلك الأن مجرد تحصيل للحاصل . لكن سوف نتسائل حول مدى " إبداع " عملاء البنك العالمي و المؤسسات المالية في خلق هاته الجسور و المسالك . إن الجديد الذي قدمه الميثاق في هذا الصدد هو تمديده للتكوين المهني داخل كل أسلاك التعليم مع إحداث ما يسمى بالتكوين بالتناوب و التكوين الذي اعتبره " عاملا أساسيا لتلبية حاجيات المقاولات من الكفايات ..." كما أقر صراحة على تمفصله " بناءا على منطق السوق , الذي يعتبر وحده الكفيل بمواكبة حاجيات المقاولات من الكفايات بطريقة فعالة ...." و تجدر الإشارة هنا إلى خطورة هذه الرؤية التي سوف يتم من خلالها ربط الإستمرار في العمل لدى الطبقة العاملة بالتكوين و إعادة التكوين الذي سيتحمل بالطبع تمويله أو تمويل القسط الأوفر منه للعمال أنفسهم – و هو ما عبرت عنه مدونة الشغل الأخيرة – مع تولي الخواص مسؤولية تخطيط التكوين المهني في إطار شراكة ثلاثية بينهم و بين الدولة و المأجورين يحصلون داخلها على حصة الأسد , الشيء الذي سيحول لا محالة تعليمنا إلى وحدة إنتاجية هدفها الوحيد هو الرفع من " المردودية " و التقليل من النفقات نصل الأن إلى نقطة أساسية داخل " الميثاق " , النقطة التي شكلت أهم و أخطر الخلاصات العملية له , و نعني بها بالطبع : المجانية . لقد ظلت الميزانية المخصصة للتعليم تثير شهية النظام القائم منذ عدة عقود , إذ لم نقل منذ بداية السستينات , لكن النظام لم يكن ليصرح بشكل مباشر عن نيته في في تصفية التعليم , خصوصا و أن موازين القوى أنذاك لم تكن لم تسمح بمثل هذه الخطوة فكان من الضروري توفير الشروط الموضوعية و الذاتية للقيام بها . و هكذا عمل النظام على ترويج العديد من المقولات و المواقف التي تهيء لهذه الشروط من قبيل كون التعليم قطاعا غير " منتج " و أن شواهد التعليم العام شواهد فارغة المحتوى , تفتقد إلى الإنسجام مع المحيط الإقتصادي و الإجتماعي ....إلخ من المقولات . و إلى جانب هذا الخطاب الديماغوجي فقد كان العنف حاضرا بشكل وازن من أجل تحقيق تلك التوازنات المفقودة , خصوصا داخل الجامعة بالسعي إلى تحطيم الحركة الطلابية و إطارها العتيد أ و ط م , بعدما تأكد عدم إمكانية لجمه او دمجه في إطار الخطوط الحمراء خصوصا مع حضور قوة ضاربة و دينامكية لها من الحيوية , ما يمكنها من الصمود أمام الضربات المتعددة و القاسية , و نقصد بها بالطبع فصيل النهج الديموقراطي القاعدي الذي نال القسط الأوفر من تلك الضربات و لا زال يعاني منها من طرف النظام القائم سواءا بشكل مباشر عن طريق أجهزة الأواكس و مختلف قوات القمع , أو بشكل غير مباشر عن طريق القوى الظلامية التي خلقها النظام داخل الجامعة من أجل إحقاق تلك التوازنات التي يبحث عنها . و مهما قد يبدو حاليا من تناقض / صراع بينهما ( أي النظام و القوى الظلامية ) , إلا أنه ليس سوى صراعا حول شكل السلطة السياسية بالبلاد , فالقوى الظلامية , و إن لم تكن لها الجرأة على التصريح عن موقفها الحقيقي من مجانية التعليم داخل الجامعة , فهي أكثر وضوحا من النظام نفسه في الإفصاح عنه من خلال مؤلفات زعمائها (راجع فصل" تعليم يحررنا" من كتاب: حوار مع الفضلاء الديموقراطيين ) .
و نظرا لموازين القوى الحالية التي ترجح كفة النظام القائم و حلفائه الموضوعيين بمشاركة القوى الإصلاحية عمد النظام إلى حسم هذه النقطة بشكل مباشر لا يخلو من ديماغوجية– كما سترى – من خلال ما تم إقراره في الفصل الأخير من الميثاق و المعنوي بالشراكة و التمويل .
فبعد أن تمت الإشادة بالتعليم الخاص و التضخيم من دوره في الرفع من جودة و فعالية نظام التربية و التكوين , تم إقرار مجموعة من الإجراءات التشجيعية له , حتى يقوم " بدوره كاملا على مستوى التعليمين الثانوي و الجامعي " و هي كالأتي :
1. وضع نظام جبائي و مشجع للمؤسسات الخاصة لمدة يمكن أن تصل إلى 20 سنة ...
2. إعفاء بعض المؤسسات التعليمية الخاصة كليا من الضرائب ..
3. أداء منح مالية لدعم المؤسسات الخاصة ذات " الإستحقاق " ..
4. اعتراف الدولة بشهادات القطاع أو منح شهادات الدولة مباشرة للمتخرجين منه .
5. وضع أجود أطر التربية و التكوين رهن إشارة التعليم الخاص .
6. استفادة أطر القطاع الخاص من دورات التكوين الأساسي و المستمر المبرمجة
لصالح القطاع العام .
فبعد التذكير بالرهانات الكمية و النوعية " لإصلاح و تطوير " نظام التربية و التكوين , و التي تم ربطها بما سمي " بالتدبير الأمثل " للموارد عن طريق " إرشاد " الإنفاق التربوي و الأخذ بمبدأ تنويع موارد تمويل التربية و التكوين بإسهام الفاعلين و الشركاء من الدولة و الجماعات المحلية و الأسر الميسورة من خلال :
1. إحداث ضريبة على المستوى الوطني لم يتم تحديد قيمتها .
2. الزيادة في نسبة ميزانية القطاع ب %5 سنويا , إلا أن هذا الكرم لا يهدف سوى إلى امتصاص إنخفاض العملة باعتراف أصحاب الميثاق أنفسهم .
3. تحمل الجماعات المحلية بشراكة مع سلطات التربية و التكوين العبء المالي الناتج عن تعميم الابتدائي و تجهيزه
4. إقرار رسوم التسجيل في التعليم الثانوي و الجامعي , تحدد قيمتها من طرف مجلس الجامعة الذي أنيطت به أيضا عملية الإشراف على صرفها .
5. إحداث نظام للقروض الدراسية .
6. الإجهاز الكلي على المنح
هكذا يبدو أن أصحاب الميثاق على درجة عالية من التمكن من إبداع أساليب المكرو الخداع التي لا تخلو من غباء واضح , و لنتسائل هل بالفعل أن تنويع موارد التمويل يعني مكافأة المقاولة و تحميل الجماهير الشعبية عبء التمويل ؟ سنترك للقارىء الإجابة على هذا التساؤل كما نترك له التعليق على المبدأ الثالث الوارد في الفقرة 173، " تفعيل التضامن الاجتماعي بإقرار حقوق التسجيل في التعليم العالي و في مرحلة
لاحقة في التعليم الثانوي ..."
و لنحاول أن نقف عند بعض النقط من أجل توضيح الأشياء .
جاء على صفحات الميثاق فقرة 173 :
" يحدث نظام القروض الدراسية بشراكة بين الدولة و النظام البنكي يمكن لطلبة و أوليائهم من أداء حقوق التسجيل بالقطاعين الخاص و العام و بشروط و تسهيلات جد تحفيزية "
ما الداعي إذن لهاته القروض ما دام الميثاق قد أقر على أن رسوم التسجيل ستفرض على الأسر الميسورة فقط , و أنه "لا يحرم أحد من متابعة دراسته بعد الإلزامي لأسباب مادية محضة ..." أم أن هاتة القروض ستشكل المخرج الذي سيتم من خلاله امتصاص ما تبقى من قوت الجماهير , و حتى الكلام على اقتصار الرسوم على الأسر " الميسورة " يبقى مجرد حبر على ورق يهدف إلى زرع الأوهام , فلنا في تجربة تقنين المنح دروسا غنية , و دون الدخول فس التساؤل حول قيمة تلك الرسوم – التي نرجح على أنها لن تكون ذي قيمة تذكر في بدايتها – لأن الإشكال يتعدى قيمتها , فهو يستهدف كخطوة أولى تحقيق مبدأ خوصصة التعليم ما دام معيار تحديد قيمة الرسوم و أشكالها قابل للمراجعة مع أية لحظة
خلاصة :
إن أهم ما يمكن استخلاصه الآن هو أن الأمر لا يتعلق إذن " بميثاق وطني للتربية و التكوين "- تلك التسمية التي تسعى إلى منح مشروعية مفقودة , بل الأمر يتعلق كما سبق الذكر بمخطط طبقي للتركيع و التبضيع , يهدف النظام من ورائه إلى تحقيق العديد من الأهداف و تثبيث مجموعة من المعطيات يمكن إجمالها فيما يلي :
. اقتصاديا :
1. دمة المصالح الإقتصادية الإمبريالية على المستوى المحلي عن طريق ما سمي بالشراكة .
2. تحويل التعليم في اتجاه خدمة مصالح المقاولات و القطاع الخاص .
3. خلق يد عاملة مؤهلة نسبيا للتكيف مع معطيات التطور التكنولوجي و متطلبات السوق الإمبريالية.
4. تحميل الجماهير الشعبية عبء التمويل عن طريق الضرائب المباشرة و غير المباشرة و لإجهازعلى المنح و بالتالي الزج بها إلى حافة الفقر و التشرد أكثر مما هي عليه.
1. جعل التعليم آلة من أجل امتصاص انخفاض العملة
2. إغلاق العديد من المؤسسات و المعاهد و توقيف التشغيل في هذا القطاع بدعوى ترشيد الإنفاق و عقلنته 3. تجميد أجور الفاعلين فيه .
إيديولوجيا :
1. ترسيخ إيديولوجية السوق .
2. ترسيخ الثقافة الرجعية على مستوى كل أسلاك التعليم .
3. طمس الهوية الحقيقية للشعب المغربي .
4. زرع الأوهام حول التضامن و التكافل الإجتماعيين 5. تسييد ثقافة الانحلال والتفسخ و إثارة روح الفردية و الأنانية
6. تفكيك وحدة الشعب المغربي .
7. العمل على تركيع الجماهير الشعبية .
. سياسيا :
1. الزج بالتعليم في نطاق السياسة الجهوية التي جاء بها دستور 96 , وما تحمله من بعد سياسي رجعي يرسخ الحكم المطلق من خلال " السلطات " المخولة للعمال .
2. نسج علاقة لا ديموقراطية مع الفاعلين الحقيقيين في القطاع , بإحداث العديد من المجالس التي تغيب فيها التمثيلية الفعلية لهم .
3. الإجهاز على العمل النقابي داخل القطاع , سواء عن طريق العمل بالعقدة بالنسبة للمدرسين الجدد , أو تحطيم الإطار المنظم للجماهير الطلابية أ و ط م , عن طريق التمثيلية غير الشرعية للطلبة داخل ما سمي بمجلس الكلية
4. تحطيم الحركة الطلابية نهائيا .
5. تفتيت وحدة التعليم بشكل نهائي من خلال ما سمي بالسياسة الجهوية
و نعتقد على أن المراسيم و القوانين المنظمة و التطبيقية لهذا المخطط ستكون أكثر إجحافا , وأكثر طبقية , و أكثر وضوحا أيضا , فما العمل إذن للتصدي لهذا المخطط ؟ إن الإجابة على إشكالية التعليم , لا يمكن أن تتم إلا في إطار مشروع مجتمعي شامل و بديل , يرسخ مصالح الجماهير الشعبية و يقطع ذلك الحبل السري الذي نسجه النظام و حلفائه منذ معاهدة " إيكس ليبان " السيئة الذكر عن طريق إحقاق سلطة الطبقة العاملة و حلفائها الموضوعيين , لكن في غياب ذلك المعبر عن هاتة المصالح و الأهداف . هل نستكين إلى الخنوع بدعوى موازين القوى ؟ أم " نناضل " على جعل الواقع كما هو عليه مادام " الميثاق " أكثر إجحافا؟
بكل تأكيد لا هذا و لا ذاك , فالأمر يتطلب نضالا حازما و جريئا أكثر من ذي قبل , و لعل الخلاصات التي توصلنا إليها في نهاية هذه القراءة , تجعلنا أكثر تشبتا بالمهام المرحلية الملقاة على عاتق الحركة الطلابية , تلك المهام تستمد مشروعيتها و راهنيتها من واقع التناقضات الطبقية التي يحمل بها المجتمع المغربي , و من واقع أزمة حركة التحرر الوطني بشكل عام , و أزمة الحركة الطلابية بشكل خاص , سواء في شقها الذاتي أو الموضوعي . و إذا كان الواقع يؤكد يوما بعد آخر ذقة و نفاذ تلك الإجابة المرحلية التي كان للطلبة القاعديين شرف طرحها للحركة الطلابية من جهة , و يفضح من الجهة المقابلة خساسة و تفاهة الطروحات الإصلاحية و التحريفية , فإن ذلك في نظرنا , يجعل تلك المهام أكثر صعوبة نظرا لحجم الإستهدافات الجديدة , التي تضرب في العمق الأساس الموضوعي للحركة الطلابية و نقصد بها بالطبع : المجــــــانــية.